فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله تعالى: {الذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها} يعني كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوها يومًا من الدهر يقال: غنيت بالمكان أي أقمت به.
والمغاني: المنازل التي بها أهلها واحدها مغنى قال الشاعر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد

أراد أقاموا فيها وقيل في معنى الآية كأن لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين يقال: غني الرجل إذا انغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر {الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين} يعني خسروا أنفسهم بهلاكهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها} أي كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى: {فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس} وكقول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وقال ابن عطية: وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيات ثم قال وأما قول الشاعر:
غنينا زمانًا بالتصعلك والغنى ** فكلًا سقانا بكاسيهما الدهر

فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذه اللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى، وقال ابن عباس: كأن لم يعمروا، وقال قتادة: كأن لم ينعموا، وقال الأخفش: كأن لم يعيشوا، وقال أيضًا قتادة وابن زيد ومقاتل: كأن لم يكونوا، وقال الزجاج: كأن لم ينزلوا، وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا و{الذين} مبتدأ والجملة التشبيهية خبره، قال الزمخشري: وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل {الذين كذبوا} شعيبًا المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيبًا قد أنجاهم الله تعالى انتهى، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر {الذين كذبوا شعيبًا} كانوا هم الخاسرين و{كأن لم يغنوا} حال من الضمير في {كذبوا} وجوّز أيضًا أن يكون {الذين كذبوا} صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلًا منه وعلى هذين الوجهين يكون {كان} حالًا انتهى، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب.
{الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين} هذا أيضًا مبتدأ وخبره، وقال الزمخشري: وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا: {لنخرجنك يا شعيب} فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا: {لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون} فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب {الذين} هنا أن يكون بدلًا من الضمير في {يغنوا} أو منصوبًا بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا}.
استئنافٌ لبيان ابتلائِهم بشؤم قولِهم فيما سبق: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا} وعقوبتِهم بمقابلته، والموصولُ مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي استُؤصِلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلًا أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المُخرَجين من القرية إخراجًا لا دخولَ بعده أبدًا وقوله تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} استئنافٌ آخرُ لبيان ابتلائِهم بعقوبة قولِهم الأخيرِ، وإعادةُ الموصولِ والصلةِ كما هي لزيادة التقريرِ والإيذانِ بأن ما ذكر في حيز الصلةِ هو الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام، وبهذا القصر اكتُفي عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} الخ. اهـ.

.قال الألوسي:

{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا}.
استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88] والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة: المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال: غنى بالمكان يغني غني وغنيانًا إذا أقام به دهرًا طويلًا، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره: إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم:
غنينا زمامًا بالتصعلك والغنى ** فكلا سقاناه بكأسهما الدهر

فما زادنا بغيًا على ذي قرابة ** غنانا ولا أزري بأحسابنا الفقر

وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غنى بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال: غنى بالمكان طال مقامه فيه مستغنيًا به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل: الذي كذبوا شعيبًا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو {الله يَبْسُطُ الرزق} [الرعد: 26] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا الإهلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجًا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوشح من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم: {لَئِنْ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} [الأعراف: 90] فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} [هود: 94] الخ، وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم.
وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء، والظاهر أن مجموع الاسئنافين مؤذن به.
وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتكرهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها.
ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله:
أن التي ضربت بيتًا مهاجرة ** بكوفة الجند غالبت ودها غول

وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ماجعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس.
وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه: {كَأَن لَّمْ} إلخ وكذا من مجموع الكلام، ولايخفى أن القول بالاستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء، وقد ذكر غير واحد أن هذا الاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون: أخوك الذين نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلًا من الضمير في {يُغْنُواْ} وأن يكون في محل نصب بإضمار أعني، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ} و{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} حال من ضمير {كَذَّبُواْ} وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلًا منه وعلى الوجهين يكون {كَأَن لَّمْ} إلخ حالًا، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {الذين كذبوا شعيبًا}.
مستأنفة ابتدائية، والتعريف بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو أن اضمحلالهم وانقطاع دابرهم كان جزاء لهم على تكذيبهم شعيبًا.
ومعنى: {كأن لم يَغنَوا فيها} تشبيه حالة استيصالهم وعفاء آثارهم بحال من لم تسبق لهم حياة، يقال: غَنَى بالمكان كرَضي أقام، ولذلك سمي مكان القوم مغنى.
قال ابن عطية: الذي استقريتُ من أشعار العرب أن غَنى معناه: أقام إقامة مقترنة بتنعم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء أي كأن لم تكن لهم إقامة، وهذا إنما يُعنى به انمحاء آثارهم كما قال: {فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24]، وهو يرجح أن يكون أصابهم زلزال مع الصواعق بحيث احترقت أجسادهم وخُسف لهم في الأرض وانقلبت ديارهم في باطن الأرض ولم يبق شيء أو بقي شيء قليل.
فهذا هو وجه التشبيه، وليس وجه التشبيه حالة موتهم لأن ذلك حاصل في كل ميت ولا يختص بأمثال مدين، وهذا مثل قوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} [الحاقة: 8].
وتقديم المسند إليه في قوله: {الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين} إذا اعتُبرت {كانوا} فعلًا، واعتبر المسند فعليًا فهو تقديم لإفادة تقوي الحكم، وإن اعتبرت كان بمنزلة الرابطة، وهو الظاهر، فالتقوي حاصل من معنى الثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية.
والتكرير لقوله: {الذين كذبوا شعيبًا} للتعديد وإيقاظ السامعين، وهم مشركو العرب، ليتقوا عاقبة أمثالهم في الشرك والتكذيب على طريقة التعريض، كما وقع التصريح بذلك في قوله تعالى: {وللكافرين أمثالها} [محمد: 10].
وضمير الفصل في قوله: {كانوا هم الخاسرين} يفيد القصر وهو قصر إضافي، أي دون الذين اتبعوا شعيبًا، وذلك لإظهار سَفه قول الملإ للعامة {لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذن لخاسرون} توقيفًا للمعتبرين بهم على تهافت أقوالهم وسفاهة رأيهم، وتحذيرًا لأمثالهم من الوقوع في ذلك الضلال. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}.
وغنى بالمكان: أقام به؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار، كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ استؤصلوا وأهلكوا إهلاكًا كاملا، وإذا كان هؤلاء المكذبون قد قالوا: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} فيكون مآلهم هو ذكره ربنا بقوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين}. اهـ.